كلمة فرار في القرآن الكريم
كلمة فرار في القرآن الكريم
ذكرت كلمة (الفرار) في القرآن الكريم في آيات عدة منها :
•قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ﴿١٦ الأحزاب﴾
•لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴿١٨ الكهف﴾
•فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا ﴿٢١ الشعراء﴾
•وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴿١٣ الأحزاب﴾
•فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴿٥٠ الذاريات﴾
•قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴿٨ الجمعة﴾
•فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴿٦ نوح﴾
•فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴿٥١ المدثر﴾
•يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿١٠ القيامة﴾
•يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤ عبس﴾
إن الفِرار يعني الهروب، ولا يكون الفِرار إلا من شيء مُخِيف مُرْعِب يَفِرُّ منه الْفَارُّ إلى مكان أَمْنٍ وسلام يَسْتَجِير به.
إننا نحن المسلمين مُكَلَّفون مأمورون بالفِرار، فقد أمرنا الله تعالى بذلك، قال عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، فلماذا الفِرار؟! ومِمَّ نفر؟! وإلى أين نَفِرُّ؟! وكيف الفِرار؟!
إن الفِرار يعني الهروب، ولا يكون الفِرار إلا من شيء مُخِيف مُرْعِب يَفِرُّ منه الْفَارُّ إلى مكان أَمْنٍ وسلام يَسْتَجِير به.
وكما قال القشيري في تفسيره: إن "الإنسان بين إحدى حالتين؛ إمّا حالة رَغْبَةٍ في شيء، أو حالة رَهْبَةٍ من شيء، أو حال رَجَاء، أو حال خَوْف، أو حال جَلْبِ نفع، أو دفع ضُرّ"، فالإنسان عادة ما يكون بين أحد حالين مما ذكر القشيري، وعليه أن يميز ويختار واحدة منهما، والعاقل سيكون فِراره إلى ما يكون فيه نجاته.
والأمر بالفعل {ففروا} يستوجب الإسراع في الهروب، فالفعل يدل على أن الخطر شديد، وهو كائن قريب حاصل، بل إن هذا الخطر يطلبنا ويلاحقنا، فلا مجال لِتَبَاطؤ وإلا كان الهلاك، والعطف بالفاء زاد في بيان شدة الخطر، مما يستدعي السرعة في الهروب، قال الرازي رحمه الله: إن الفعل {فروا}: "يُنبئ عن سرعة الإهلاك، أي أن الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب، من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع".
وفي الآية: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} صورة حية نابضة، فكأن الخطر ماثل أمامنا، فتغرس الصورة في قلب السامع الخوف والحذر، وتدفعه إلى الفزع والهروب، قال ابن عاشور رحمه الله: إن في الآية: "اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ تَوَرُّطِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ بِحَالِ مَنْ هُوَ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ يَدْعُو حَالُهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُجِيرُهُ".
إن الأمر جَلَلٌ، والحال خَطَرٌ، ومَنْ تَبَاطَأ هَلَكَ وخَسِرَ، فلا بد مِن الفِرار، وعلى عَجَل.
فلماذا الفِرار؟
لأن الفرار في الآية يعني النجاة، وأن عدم الفرار يعني الهلاك، فكان لا بد من الفرار وإلا كان الضياع والخسران المبين.
فَمِمَّ الفِرار؟
إنْ شِئْتُم أنْ تعلموا مما يكون الفِرار فاسمعوا لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ".
إذن الفِرار مِن سَخَطِ الله وغَضَبِه، ومِنْ عقاب الله وعذابه، إنه الفِرار من الله، فإن كان الفرار من الله فإلى أين الفرار؟ وإلى مَن؟
إنَّ الفِرار إنما يكون كما أمرنا الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، فإنه عز وجل الْمَخُوفُ الْمَرْهُوبُ، وهو عز وجل الْمَعُوذ، فإنْ استعذتَ فَمَنْ يُعِيذُك؟
إنه هو الله، فلا عَائِذَ لنا سِواه، فقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الله عز وجل، واستعاذ به، قال صلى الله عليه وسلم: "وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ".
فلا نَجَاةَ لنا إلا به، ولا مَنْجَى لنا إلا إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ، وَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ".
ونقل الشوكاني والقرطبي عن الحسين بن الفضل أنه قال: "احْتَرِزُوا مِنْ كُل شَيْءٍ غير اللَّه، فَمَنْ فَرَّ إِلى غيره لَمْ يَمْتَنِع مِنْه"، وإنْ كُنَّا عَلِمْنا إلى أين يكون الفرار، ولِمَنْ يكون الْمَلْجَأ والْفِرار، فَكَيْفَ إذن يكون الفرار إلى الله؟
كيف الفرار إلى الله؟
إنَّ الفِرار إنْ كان مِنَ الله، ثم هو إلى الله، فإنَّ الفِرار يكون مِنْ سَخَطِ الله إلى رِضَاه، ومِنْ عَذَابِ الله إلى عَفْوِ الله ورحمته.
والفِرار مِنْ سَخَطِ الله ومِنْ عَذاب الله لا يكون إلا بِتَرك الْمَعاصي، ومُخَالَفَة هَوَى النفس، ومُحَارَبَة الشيطان.
والفِرار إلى رضا الله وعفو الله ورحمته لا يكون إلا بطاعة الله وطاعة رسول الله.
وذكر السعدي -رحمه الله- في تفسيره أن الفرار يكون: "مِمَّا يكرهه الله ظاهراً وباطناً، إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً، فِرار من الجهل إلى العلم، ومِن الكفر إلى الإيمان، ومِن الْمَعصية إلى الطاعة، ومِن الغفلة إلى ذكر الله، فَمَنْ استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله، وقد زال عنه الْمَرْهُوب، وحَصَلَ له نهاية المراد والمطلوب.
ولابن عطية -رحمه الله- تأويل بديع للفرار قال: " (فَفِرُّوا) أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لِيُنَبِّهَ على أنَّ وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حَقُّهُ أنْ يُفَرَّ منه، فجمعت لفظة (فرّوا) بين التحذير والاستدعاء".
ونقل إلينا القرطبي -رحمه الله- بعض أقوال العلماء والعباد منها:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: فِرُّوا مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الشَّيْطَانُ دَاعٍ إِلَى الْبَاطِلِ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ يَمْنَعُكُمْ مِنْهُ.
وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: فَفِرُّوا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الشُّكْرِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: فِرُّوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ.
وخُلاصَةُ جواب أسئلة: مِمَّ الفِرار؟ وإلى أين الفِرار؟ وكيف يكون الفِرار؟
فإنكم تجدونها في قول الله -تعالى- حكايةً عن الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن غزوة تبوك: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
وتجدونها في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ".
وتجدونها في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}..والله أعلم.
و الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه، وما سيؤول فيه من أحوال المؤمنين الكافرين، كلٌّ بما كسبت يداه وقدَّم.
فمتاع الحياة الدنيا وإنّ طال فهو قليل جدّاً في حساب حقيقة الزمن، وأنّ خالق كلّ شيء لعظيم في خلقه وشأنه، وأنّ المعاد حق ولابدّ من حتمية وقوعه.
( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37))
ويقول القرآن الكريم: (فإذا جاءت الصاخة) (1)
"الصّاخة": من (صخّ)، وهو الصوت الشديد الذي يكاد أنْ يأخذ بسمع الإنسان، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثّانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعاً ليبدأ منها يوم الحشر.
نعم، فالصيحة من الشدّة بحيث تذهله عن كلّ ما كان مرتبطاً به، سوى نفسه وأعماله.
ولذا، تأتي الآية التالية، ولتقول مباشرة: (يوم يفرّ المرء من أخيه).
ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاُخوة الحقة!
وكذلك: (اُمّه وأبيه). و حتى: (وصاحبته وبنيه).
فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الأخ والاُم والأب والزوجة والأولاد فحسب، بل وتتعدى إلى الفرار منهم، وعندما ستتقطع كلّ روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين... فحينها سوف لا يهتم إلاّ نفسه وما قدّم، وسينسى: اُمّه التي كانت تحبّه وتفديه...وأبو الذي ربّاه واحترمه...وزوجته التي لا تعرف غيره...وأولاده... ثمرة كبده وقرة عينه...
وقيل: إنّما يكون الفرار للتهرب من الحقوق التي لهم عليه، وهو عاجز عن أدائها.
وقيل أيضاً: إنّما يفر المؤمنون خاصّة من أقربائهم من غير المؤمنين وغير المتقين، خوفاً من الإصابة بما سيصيب اُولئك من عقاب.
ويبدو أنّ التفسير الأوّل أنسب ولا مانع من الجمع بينهما.
ولكن... ما سرّ تسلسل ذكر الأخ، ثمّ الاُمّ، فالأب من بعدها، ومن ثمّ الزوجة والأولاد؟
يعتقد بعض بأّ التسلسل قد لوحظ فيه شدّة العلاقة ما بين الفار ومَنْ يرتبط بهم، وقد تسلسل الذكر من الأدنى حتى الأعلى، ليعطي لهذا التصوير بعداً بلاغياً، فهو من أخيه، ثمّ من اُمّه وأبيه، ثمّ من زوجته وبنيه.
ولكن: يصعب الخروج بقاعدة كلية تختص في ترتيب العلائق بين الناس، فالناس ليسوا سواسية في هذا الجانب، فقد نجد من يكون مرتبطاً بأخيه أكثر من أيّ إنسان الآخر، ونجد ممن لا يقرّب على علاقته باُمّه شيء، وثمّة من تكون زوجته رمز حياته، أو مَنْ يفضل ابنه حتى على نفسه... الخ.
وثمّة عوامل اُخرى تدخل في التأثير على علاقة الإنسان بأخيه وأبيه وزوجته وبنيه، وعلى ضوئها لا يمكننا ترجيح أفضلية أيّ منهم على الآخر من جميع الجهات، وعليه فلا يمكن القطع بأنّ التسلسل الوارد في الآية قد جاء على أثر أهمية وشدّة العلاقة.
ولكن... لِمَ الفرار؟... (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه).
"يغنيه": كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما سيرى من حوادث مذهلة، تأخذه كاملاً، فكراً وقلباً.
وقد سئل رسول اللّه (ص) عن الحميم، وهل يذكره الرجل يوم القيامة؟ فقال: "ثلاثة مواطن لا يذكر (فيها) أحدٌ أحداً: عند الميزان، حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف؟... وعند الصراط، حتى ينظر أيجوزه أم لا؟... وعند الصحف، حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشمال؟... فهذه ثالثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، ذلك قوله تعالى: (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه) .
https://www.hodaalquran.com/ و https://arabicpost.net/
|